
أسامة داود يكتب: سليمان الحكيم مدرسة الإنسانية

التقيت أول مرة بالكاتب الصحفى الكبير سليمان الحكيم عليه رحمة الله فى مكتب الدكتور سيد نور الدين، وكان رئيسًا للمجالس الطبية المتخصصة، لإنهاء قرارات علاج لحالات إنسانية من البسطاء من جيرانة المرضى وكنت أستخرج قرار علاج لسيدة مريضة، والتفت الحكيم، وتابع حديثنا بعينين فاحصتين وأذنين واعيتين ما يدور من حديث مع صديقنا الدكتور سيد نور الدين.
رأيت الحكيم نحيلاً رشيقًا متحدثًا لبقًا، يملك وجهًا صبوحًا وروحًا دعوبة، يتحدث فى كل شىء بعلم وثقة، يحمل فى صدره رصيدًا كبيرًا من الثقافة ومعايشة العظماء من كتاب وصحفيين وأدباء وفنانيين وسياسيين وعلماء.
كان كالنحلة يتنقل ما بين بساتين الزهور، يمتص الرحيق ليمتعنا بكتابات أشهى للروح من العسل.
يتسلل إلى المجالس الجافة ليهدهد الكلمات ويرسم على الوجوه ابتسامة
المهم بعد أن هممت بالانصراف، قرر أن يقوم ويصافحنى.. كنت أعرفه كاتبًا كبيرًا صاحب صولات وجولات فى عالم الصحافة، كلماته ربما حادة أحيانًا كنصل السيف وأحيانًا حانية فى نعومة كف الأم، ومعظمها كمبضع الجراح لا يفتح أو يزيل إلا بغرض العلاج.
حكى لى سليمان الحكيم الكاتب الكبير يومًا عن حوار استطاع أن يجريه مع الأديب الكبير توفيق الحكيم فى مكتبه بالأهرام وفى حضور أديب نوبل وفخر الأمة العربية نجيب محفوظ.
كان يحكى وأنا مشدوه لكونه استطاع أن يجالس عملاقين فى مكتبهما بجريدة الأهرام.
يقول: طلبت موعدًا، وبعد إلحاح اتصلت بى السكرتيرة، وحددت لى موعدًا.. دخلت وسلمت وجلست وأنا شاب صغير أعمل فى مجلة أكتوبر، وسألنى توفيق الحكيم عن سبب الإلحاح فى طلب المقابلة، قلت: لإجراء حوار. ابتسم وقال: لا ليس الآن، بل بعد أن يتصل رئيس التحرير ويتفق معى. ويقصد هنا سداد مقابل إجراء الحوار للأديب الكبير، وكان رئيس التحرير هو الكاتب الكبير أنيس منصور.
لم يستسلم سليمان كعادته لقرار الاديب الكبير وقال: ولكن رئيس التحرير يمكن أن يفصلنى إذا لم أستطع إجراء الحوار. ويكمل سليمان بإسلوب جعلنى متشوقا لمعرفة النتيجة ليكمل: ظللت معه فى جدال، وكان كل منهما يشرب الشاى على نفقته، ونظر لى، وقال له الأديب الكبير نجيب محفوظ مداعبًا: اطلب لضيفك الشاى. ومرت لحظات والرجل فى حيرة، ولكنه خضع لنداءات نجيب محفوظ، وطلب الشاى لى، وحاسب عليه!
وبدأت أوجه أسئلتى، وكانت إجابات الرجل مشروطة بأنه لا نشر قبل إرسال شيك بأجر الحوار.
قلت: نعم سوف أبلغ الأستاذ أنيس بذلك.
أجريت الحوار كاملاً، وانصرفت.. شعرت بحالة السعادة التى ارتسمت على وجه أنيس منصور عندما قدمت له الحوار وأنا أردد شرط الأديب الكبير.. لكن رئيس التحرير لم ينتظر، بل أمر بنشر الحوار فى العدد القادم من المجلة.
وبعد النشر اتصل توفيق الحكيم به وعنفه، ولكن أنيس منصور كان سعيدًا بما حدث.. وأخذ يداعبه وقد ازداد غضب الرجل، ولكنه لم يكن ليصمت حتى أرسلت مجلة أكتوبر له شيكًا بقيمة الحوار الذى أجراه سليمان الحكيم مع الاديب الكبير توفيق الحكيم.
وبعد مرور سنوات طويلة على الحوار الذى كان فى نهاية السبعينيات، وفى بداية الألفية كتب سليمان الحكيم يحكى تفاصيل الحوار الذى كنت قد عرفته.. بعنوان "الحكيم بخيلاً".
اتصلت به وقلت: هذا عنوان خطأ، ولكن بعد أن شربت الشاى على نفقته الخاصة كان يجب أن تجعل عنوان المقال الحكيم كريمًا.. فلم يستطع غيرك كما تردد عنه أن يشرب كوبًا من الشاى على نفقة الاديب الكبير توفيق الحكيم.
المناضلة تحية كاريوكا
كتب سليمان الحكيم كتابًا عن تحية كاريوكا بعنوان (كاريوكا بين الرقص والسياسة) كان كتابًا يكشف أن لهذه الراقصة اللولبية مواقف وطنية ضد الإنجليز ودعمًا للحركة الوطنية طوال تاريخها وحتى ثورة 1952، وكان معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة يعرفون من هى تحية كاريوكا التى فعلت بمفردها ما لم يستطع عشرات الرجال أن يقوموا به مجتمعين.
لقد كشف لنا معادن كنا ننظر إليها على أنها شخصيات سطحية تعيش العبث، فأعطانا سليمان الحكيم درسًا فى أن الحكم على الناس بالظاهر جريمة فى حق النفس والإنسانية.
ولا أنسى يوم أن حصلت على جائزتين للتفوق الصحفى من نقابة الصحفيين فى عام 2003 وكانت إحداهما فى القصة الإنسانية عن جرحى الانتفاضة الفلسطينية والأخرى عن ملف العلاج على نفقة الدولة.
وجهزت جريدة العربى احتفالية لى، وخصصت مساحة ثلث صفحة لتضم مقالات لمن يريد أن يشارك، وحضر سليمان الحكيم ومعه مقال يصفنى فيه بالفلاح الفصيح؛ ليكون عنوانًا رئيسيًّا، بينما قرر الزملاء بجريدة العربى أن يتناولونى بأعمدتهم لضيق المساحة، بعدما انهالت على تلك المساحة مقالات للبعض من خارج كُتاب الجريدة.
وكان بينى وبين أستاذى سليمان الحكيم اتصال تليفوني معظم الأوقات، غالبًا يكون فى السادسة صباحًا.
ونتقابل فى الساعات الأولى من معظم الأيام بمكتبى بنقابة الصحفيين وقت أن كنت عضوًا بمجلس النقابة خلال الفترة من 2011 وحتى 2017. كان سليمان الحكيم بقفشاته وضحكاته عملة نادرة، ولم يمرض سليمان الحكيم يومًا بأكثر من الإنفلونزا.
وفى الشهور الأخيرة قال: أنا مريض وعندى حزام نارى. قلت: أصابنى مرة والحمد لله شفيت.
وبقى يتردد على النقابة سنوات، وحتى فوجئت بأنه محتجز بأحد المستشفيات بالإسماعيلية، وظل سليمان الحكيم مريضًا، ولكنه لم يتوقف عن الاتصال أو عن إمتاعنا بكتاباته عبر الفيس بوك، حتى توفاه الله. رحم الله الكاتب الكبير الإنسان والمعلم سليمان الحكيم رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.